السبت، 26 نوفمبر 2016

صانع الطرابيش بقلم محمد على عاشور

قصة قضيرة/بقلم محمد على عاشور
صانع الطرابيش
أصابته غفوة وهو جالس في ظل احد الأشجار في محطة القطار ، ينتظر قطاره ويتابع بعض رواد المحطة ، أفاق على سعال شديد لشخص بجواره ، هز رأسه في حركة سريعة والتفاف واستدار في قليل من الغيظ لينظر إلى من افسد عليه غفوته ، هز رأسه مرة ثانية ، أحس كأنه يحلم .
دقق النظر مرة أخرى إلى رجل بجواره ، كأنه قادم من منتصف القرن العشرين ، يرتدي ملابسه في أناقة تامة ، وحذاؤه لامع وقد وضع ساقا فوق ساق وبيده عصا من الأبنوس الأسود ، وعلى رأسه طربوش أحمر كأنه وزير من الزمن الماضي قد قارب على السبعين من عمره وبدا عليه إرهاق الحياة . 
جلس الرجل يهز رأسه في أسى ، والمارون من حوله ينظرون إليه ويتعجبون، وبعضهم ألقى بالكلمات الساخرة منه ، وقد سمع شابين يقول أحدهما للآخر :
الراجل ده باين عليه من هوجة عرابي . 
ضحك الاثنان فنظر إليهما الرجل في كثير من الحزن حتى أصابهما شيء من الحرج فأسرعا الخَطى .
كانت أول مرة يرى فيها شخصا يلبس طربوشاً حقيقياً ، فلم تكن معرفته بالطربوش أكثر مما يشاهده في التلفاز ، يشاهده على رؤؤس الممثلين . 
أحس أن شيئاً يدفعه كي يكلم هذا الرجل فربما لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى ، لكنه أحس بشلل يصيب تفكيره ، فلا يجد من الكلام ما يكلم به الرجل فصمت وهو يتابع قطارا فاخراً يزلزل المحطة وهو ينطلق . 
انتبه للرجل وهو يوخذه بعصا الأبنوس ويخبره بأنه ينادي عليه من مدة ليطلب منه ثقابا ، هب واقفاً دون ضيق بل كان سعيدا ، فقد جاءته الفرصة ، أشعل للرجل سيجارته الوحيدة التي طوي بعدها العلبة ورماها مشوهة المعالم . 
جلس بجوار الرجل مباشرة واشعل لنفسه سيجارة وأخذ يدخن ، كانت به رغبة شديدة بأن يلمس الطربوش بيده وتمنى أن يضعه على رأسه ولو لدقيقة ، نظر في الأرض مدة صغيرة وهو يفكر ، استدار للرجل وعيناه حائرتان بين الطربوش ووجهه وقال له في كثير من الأدب حتى لا يضايقه : 
عايز أسأل حضرتك سؤال ؟
: أجابه الرجل في هدوء وهو يبتسم ابتسامة خفيفة : 
: أنا عارف سؤالك من ساعة ما جيت جانبي وأنت عايز تسأل على الطربوش .
: أيوه ..منين جبت الطربوش ده ؟
نظر إليه الرجل وهو يبتسم ولكن في مرارة شديدة وقال له : 
: أنا صانع طرابيش ، أو قول أنا كنت كده !!
ثم استطرد يقول في شيء من الفلسفة وهو يهز رأسه : 
: أنت تعرف إن الطربوش ده هو الشيء الوحيد اللي كان يلبسه الشعب المصري كله ، كان يلبسه الملك 
وحاشيته والضابط والعساكر والطلبة والموظفين ، وكل الناس كانت بتلبسه ، كل الناس . 
حدق في عيني الرجل وهو يتكلم ، إنه منذ أن فتح معه الحديث لم يتوقف لحظة واحدة كأنه كان ينتظر أن يكلمه شخص ليحكي له الحكايات عن الطربوش وزمنه وزبائنه من عليه القوم ، حتى أنه كان يصنع الطربوش لرجال السرايا أنفسهم . 
كان الشاب منبهراً بما يسمع حتى أخذه شيء من الشرود وهو يفكر في كلمات ذلك الرجل . 
لمحت عيناه من بعيد شخصا يرتدي طربوشا ، أراد أن يخبر الرجل ، لكنه لمح شخصا آخر يرتدي أيضا طربوشا ثم ثالث ورابع وخامس جميعهم يرتدون الطرابيش ، وظلوا يتزايدون ويتزايدون والرجل يتلفت حوله من الذهول في سعادة وقد فغر فاه ، حتى تحول الناس إلى طوفان أحمر يخنق المكان ويخنق الرجل ويخنقه هو أيضا حتى لم يعد يستطيع أن يرى شيئا. 
أفاقه صوت سعال الرجل وسمعه يقول : 
حتى ما عاد فيه حد غيري يلبس الطربوش . 
حاول إن يخفف من حزن الرجل فسأله 
: ليه الناس ما عاد بتلبس الطربوش زي زمان . 
دق الرجل عصاه بالأرض وهو يضحك في مرارة ثم هب واقفاً وقد بدأ يغني وهو ينصرف :
وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان 
................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نورا تجلى بقلم شاعر الناي الحزين محمود درويش

 نوراَ تجلي. .......... لما لاح في الأفق اسم محمد تهللت السماء بالضياء والطير غردا كانت الدنيا بالجاهلية في ظلام فأقبل خير الأنام بالضياء مت...