قصة قضيرة/بقلم محمد على عاشور
صانع الطرابيش
أصابته غفوة وهو جالس في ظل احد الأشجار في محطة القطار ، ينتظر قطاره ويتابع بعض رواد المحطة ، أفاق على سعال شديد لشخص بجواره ، هز رأسه في حركة سريعة والتفاف واستدار في قليل من الغيظ لينظر إلى من افسد عليه غفوته ، هز رأسه مرة ثانية ، أحس كأنه يحلم .
دقق النظر مرة أخرى إلى رجل بجواره ، كأنه قادم من منتصف القرن العشرين ، يرتدي ملابسه في أناقة تامة ، وحذاؤه لامع وقد وضع ساقا فوق ساق وبيده عصا من الأبنوس الأسود ، وعلى رأسه طربوش أحمر كأنه وزير من الزمن الماضي قد قارب على السبعين من عمره وبدا عليه إرهاق الحياة .
جلس الرجل يهز رأسه في أسى ، والمارون من حوله ينظرون إليه ويتعجبون، وبعضهم ألقى بالكلمات الساخرة منه ، وقد سمع شابين يقول أحدهما للآخر :
الراجل ده باين عليه من هوجة عرابي .
ضحك الاثنان فنظر إليهما الرجل في كثير من الحزن حتى أصابهما شيء من الحرج فأسرعا الخَطى .
كانت أول مرة يرى فيها شخصا يلبس طربوشاً حقيقياً ، فلم تكن معرفته بالطربوش أكثر مما يشاهده في التلفاز ، يشاهده على رؤؤس الممثلين .
أحس أن شيئاً يدفعه كي يكلم هذا الرجل فربما لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى ، لكنه أحس بشلل يصيب تفكيره ، فلا يجد من الكلام ما يكلم به الرجل فصمت وهو يتابع قطارا فاخراً يزلزل المحطة وهو ينطلق .
انتبه للرجل وهو يوخذه بعصا الأبنوس ويخبره بأنه ينادي عليه من مدة ليطلب منه ثقابا ، هب واقفاً دون ضيق بل كان سعيدا ، فقد جاءته الفرصة ، أشعل للرجل سيجارته الوحيدة التي طوي بعدها العلبة ورماها مشوهة المعالم .
جلس بجوار الرجل مباشرة واشعل لنفسه سيجارة وأخذ يدخن ، كانت به رغبة شديدة بأن يلمس الطربوش بيده وتمنى أن يضعه على رأسه ولو لدقيقة ، نظر في الأرض مدة صغيرة وهو يفكر ، استدار للرجل وعيناه حائرتان بين الطربوش ووجهه وقال له في كثير من الأدب حتى لا يضايقه :
عايز أسأل حضرتك سؤال ؟
: أجابه الرجل في هدوء وهو يبتسم ابتسامة خفيفة :
: أنا عارف سؤالك من ساعة ما جيت جانبي وأنت عايز تسأل على الطربوش .
: أيوه ..منين جبت الطربوش ده ؟
نظر إليه الرجل وهو يبتسم ولكن في مرارة شديدة وقال له :
: أنا صانع طرابيش ، أو قول أنا كنت كده !!
ثم استطرد يقول في شيء من الفلسفة وهو يهز رأسه :
: أنت تعرف إن الطربوش ده هو الشيء الوحيد اللي كان يلبسه الشعب المصري كله ، كان يلبسه الملك
وحاشيته والضابط والعساكر والطلبة والموظفين ، وكل الناس كانت بتلبسه ، كل الناس .
حدق في عيني الرجل وهو يتكلم ، إنه منذ أن فتح معه الحديث لم يتوقف لحظة واحدة كأنه كان ينتظر أن يكلمه شخص ليحكي له الحكايات عن الطربوش وزمنه وزبائنه من عليه القوم ، حتى أنه كان يصنع الطربوش لرجال السرايا أنفسهم .
كان الشاب منبهراً بما يسمع حتى أخذه شيء من الشرود وهو يفكر في كلمات ذلك الرجل .
لمحت عيناه من بعيد شخصا يرتدي طربوشا ، أراد أن يخبر الرجل ، لكنه لمح شخصا آخر يرتدي أيضا طربوشا ثم ثالث ورابع وخامس جميعهم يرتدون الطرابيش ، وظلوا يتزايدون ويتزايدون والرجل يتلفت حوله من الذهول في سعادة وقد فغر فاه ، حتى تحول الناس إلى طوفان أحمر يخنق المكان ويخنق الرجل ويخنقه هو أيضا حتى لم يعد يستطيع أن يرى شيئا.
أفاقه صوت سعال الرجل وسمعه يقول :
حتى ما عاد فيه حد غيري يلبس الطربوش .
حاول إن يخفف من حزن الرجل فسأله
: ليه الناس ما عاد بتلبس الطربوش زي زمان .
دق الرجل عصاه بالأرض وهو يضحك في مرارة ثم هب واقفاً وقد بدأ يغني وهو ينصرف :
وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان
................
صانع الطرابيش
أصابته غفوة وهو جالس في ظل احد الأشجار في محطة القطار ، ينتظر قطاره ويتابع بعض رواد المحطة ، أفاق على سعال شديد لشخص بجواره ، هز رأسه في حركة سريعة والتفاف واستدار في قليل من الغيظ لينظر إلى من افسد عليه غفوته ، هز رأسه مرة ثانية ، أحس كأنه يحلم .
دقق النظر مرة أخرى إلى رجل بجواره ، كأنه قادم من منتصف القرن العشرين ، يرتدي ملابسه في أناقة تامة ، وحذاؤه لامع وقد وضع ساقا فوق ساق وبيده عصا من الأبنوس الأسود ، وعلى رأسه طربوش أحمر كأنه وزير من الزمن الماضي قد قارب على السبعين من عمره وبدا عليه إرهاق الحياة .
جلس الرجل يهز رأسه في أسى ، والمارون من حوله ينظرون إليه ويتعجبون، وبعضهم ألقى بالكلمات الساخرة منه ، وقد سمع شابين يقول أحدهما للآخر :
الراجل ده باين عليه من هوجة عرابي .
ضحك الاثنان فنظر إليهما الرجل في كثير من الحزن حتى أصابهما شيء من الحرج فأسرعا الخَطى .
كانت أول مرة يرى فيها شخصا يلبس طربوشاً حقيقياً ، فلم تكن معرفته بالطربوش أكثر مما يشاهده في التلفاز ، يشاهده على رؤؤس الممثلين .
أحس أن شيئاً يدفعه كي يكلم هذا الرجل فربما لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى ، لكنه أحس بشلل يصيب تفكيره ، فلا يجد من الكلام ما يكلم به الرجل فصمت وهو يتابع قطارا فاخراً يزلزل المحطة وهو ينطلق .
انتبه للرجل وهو يوخذه بعصا الأبنوس ويخبره بأنه ينادي عليه من مدة ليطلب منه ثقابا ، هب واقفاً دون ضيق بل كان سعيدا ، فقد جاءته الفرصة ، أشعل للرجل سيجارته الوحيدة التي طوي بعدها العلبة ورماها مشوهة المعالم .
جلس بجوار الرجل مباشرة واشعل لنفسه سيجارة وأخذ يدخن ، كانت به رغبة شديدة بأن يلمس الطربوش بيده وتمنى أن يضعه على رأسه ولو لدقيقة ، نظر في الأرض مدة صغيرة وهو يفكر ، استدار للرجل وعيناه حائرتان بين الطربوش ووجهه وقال له في كثير من الأدب حتى لا يضايقه :
عايز أسأل حضرتك سؤال ؟
: أجابه الرجل في هدوء وهو يبتسم ابتسامة خفيفة :
: أنا عارف سؤالك من ساعة ما جيت جانبي وأنت عايز تسأل على الطربوش .
: أيوه ..منين جبت الطربوش ده ؟
نظر إليه الرجل وهو يبتسم ولكن في مرارة شديدة وقال له :
: أنا صانع طرابيش ، أو قول أنا كنت كده !!
ثم استطرد يقول في شيء من الفلسفة وهو يهز رأسه :
: أنت تعرف إن الطربوش ده هو الشيء الوحيد اللي كان يلبسه الشعب المصري كله ، كان يلبسه الملك
وحاشيته والضابط والعساكر والطلبة والموظفين ، وكل الناس كانت بتلبسه ، كل الناس .
حدق في عيني الرجل وهو يتكلم ، إنه منذ أن فتح معه الحديث لم يتوقف لحظة واحدة كأنه كان ينتظر أن يكلمه شخص ليحكي له الحكايات عن الطربوش وزمنه وزبائنه من عليه القوم ، حتى أنه كان يصنع الطربوش لرجال السرايا أنفسهم .
كان الشاب منبهراً بما يسمع حتى أخذه شيء من الشرود وهو يفكر في كلمات ذلك الرجل .
لمحت عيناه من بعيد شخصا يرتدي طربوشا ، أراد أن يخبر الرجل ، لكنه لمح شخصا آخر يرتدي أيضا طربوشا ثم ثالث ورابع وخامس جميعهم يرتدون الطرابيش ، وظلوا يتزايدون ويتزايدون والرجل يتلفت حوله من الذهول في سعادة وقد فغر فاه ، حتى تحول الناس إلى طوفان أحمر يخنق المكان ويخنق الرجل ويخنقه هو أيضا حتى لم يعد يستطيع أن يرى شيئا.
أفاقه صوت سعال الرجل وسمعه يقول :
حتى ما عاد فيه حد غيري يلبس الطربوش .
حاول إن يخفف من حزن الرجل فسأله
: ليه الناس ما عاد بتلبس الطربوش زي زمان .
دق الرجل عصاه بالأرض وهو يضحك في مرارة ثم هب واقفاً وقد بدأ يغني وهو ينصرف :
وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان
................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق